منتديات ليب مون

يختلف مشهد المحكمة الخاصة بلبنان في ضاحية لايسندام في لاهاي، عمّا عليه في بيروت، فالموظّفون بمختلف درجاتهم وأعمالهم، وهم من جنسيات لبنانية وعربية وأجنبية، هادئون إلى أقصى درجة الهدوء، تماماً كما هي الحياة في لاهاي، وكأنّهم لا يستمدّون برودة أعصابهم من المناخ البارد هناك، بينما من يسمع الكباش السياسي اللبناني المتوتّر حول القرار الاتهامي، وجدوى المحكمة برمّتها، يشعر وكأنّ الحرب على الأبواب، والبلد في طريقه إلى الخراب.
فآراء هؤلاء الموظّفين المتقشّفين أساساً في إبداء كلامهم عن مهامهم وما يلمسونه من المحكمة، توحي بأنّ العمل جار على قدم وساق، ولا ينقصه سوى إصدار القرار الاتهامي للبدء في ورشة المحاكمات، بغضّ النظر عن مضمون هذا القرار والآلية الواجب اتباعها لوضعه حيّز التنفيذ ووصوله إلى المحكمة، فهو يحتاج بعد أن يوقّعه المدعي العام القاضي بيلمار، إلى أن «يكشف» عليه قاضي الإجراءات التمهيدية البلجيكي دانيال فرانسين ويتحقّق بنفسه من العناصر المؤيّدة للاتهام، وهو صلة وصل لا مفرّ منها لمرور القرار الاتهامي من مكتب بيلمار إلى المحكمة.
وما يحكى في بيروت عن المحكمة مغاير تماماً لما هو موجود على أرض الواقع، وهذا ما يلمسه عن كثب، كلّ من يأتي إليها زائراً، أو متفقّداً أحوالها، وخصوصاً ما يتعلّق بطريقة عمل أحد أقسامها الفعليين وقبلة الأنظار حالياً، أيّ مكتب المدعي العام الدولي القاضي الكندي دانيال بيلمار والذي يجدُّ في بحثه عن قتلة الرئيس رفيق الحريري بغية تقديمهم إلى المحاكمة وسوقهم إلى «قفص الاتهام»، وهو قفص مغاير لما هو عليه في المحاكم اللبنانية حيث يوضع المتهم خلف صندوق خشبي مرتفع عن الأرض، وغير مزنّر بالحديد، بينما في المحكمة الخاصة بلبنان يجلس على كرسي وثير وأمامه حاسوب، وإلى جانبه عنصر أمن مولج بحراسته.
وعلى عكس ما يتردد في بيروت عن أنّ هناك حضوراً كثيفاً للمترجمين استعداداً لبدء المحكمة عملها وتشريع قاعتها الرياضية في الأساس، لجلسات المحاكمات، فالعدد لا يزال على حاله، والدليل هو عدم قدرة المحكمة في الوقت الراهن على ترجمة وتعريب كلّ المذكّرات القانونية التي تمّ تداولها في الدعوى المقامة من اللواء الركن جميل السيّد ضدّ القاضي بيلمار، وطلبيه بردّ (تنحية) القاضيين اللبنانيين رالف رياشي وعفيف شمس الدين مع ما يستدعي ذلك من استحواذ شامل على ملكة الترجمة بالنسبة للمصطلحات والمفردات القانونية، والبرهان الساطع هو الموقع الإلكتروني الرسمي للمحكمة الخاصة بلبنان وما يتضمّنه في هذا المجال، وتكفي كبسة زرّ واحدة بالدخول إليه لتؤكّد وجهة النظر هذه.
كما أنّ المحكمة تحرص على أن تكون الترجمة مستوفية لكلّ الشروط القانونية، لأنّ كلّ مستند يصدر عنها هو وثيقة للنقاش والمساءلة، وهذا ما أكّدته رئيسة مكتب التواصل السيّدة أولغا كفران بتعبيرها بضرورة توخّي الحرص والدقّة في الترجمة المسؤولة، كما أنّ رئيسة مكتب التواصل في بيروت السيّدة وجد رمضان تشدّد على وجوب التأنّي في إجراء الترجمة الصحيحة لأنّه يؤدّي إلى الطريق الصحيح، علماً أنّ المترجمين لا يتوانون عن القيام بواجبهم، ولكنّ الدقّة تفرض التأخير بعض الشيء، بينما المستند الصادر بإحدى اللغتين الأجنبيتين المعتمدتين في المحكمة إلى جانب اللغة العربية الفصحى، يبصر النور على الموقع، فور طباعته.
ولكنْ هل تبقى قاعة المحكمة فارغة كما هي حال مطار «Schiphol» الدولي في أمستردام عندما وصل إليه الوفد الإعلامي اللبناني المشارك في أعمال المنتدى الإعلامي الذي نظّمته المحكمة، وذلك ليل الثلاثاء الأربعاء الفائت، حيث كان خالياً وموحشاً ومقفراً من الناس، فلا حركة ولا نَفَس، بل جدران ومعدّات صامتة؟ أم أنّها تكون ضاجة بالمتهمين الموقوفين وصاخبة بالناس على غرار مشهد العودة من المطار نفسه ظهيرة يوم السبت الماضي؟
وهل تبقى المحاكمة إذا قدّر لها الحصول في يوم ما باعتبار أنّ تجربة المحاكم الدولية تؤكّد الإطالة، باردة على غرار مناخ لاهاي، فتمتدّ سنوات وسنوات، مع ما يستتبع ذلك من تناقص مالي في خزينة الدولة اللبنانية الواقعة أساساً في عجز كبير، لأنّ لبنان ملزم بتحمّل 49% من نفقات المحكمة؟
إنّ التناقضات الموجودة بين المحاكم الثلاث العاملة على أرض لاهاي، وهي المحكمة الخاصة بلبنان (STL)، والمحكمة الجنائية الدولية (ICC)، والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة(ICTY)، غير منصفة وغير عادلة، كون قوانينها وأنظمتها مفصّلة بحسب مصالح سياسية في الدرجة الأولى، وهذا ما تؤكّده الانطباعات التي يخرج بها زائر هذه المحاكم، فكيف تسير السياسة والقانون على ذات السكّة وهل يعيشان تحت سقف واحد؟
في لاهاي ثمّة منظر جميل، إذ تسير السيّارات والترامواي والدرّاجات الهوائية بمحاذاة بعضها بعضاَ على الطريق، ولكنّها تلتزم أصول السلامة العامة، فهل تلتزم هذه المحاكم أصول السلامة العامة للبلدان المعنية بها تجنّباً للويلات التي قد تجرّها عليها؟
تجدر الإشارة إلى أنّ المحكمة الخاصة بلبنان وقّعت مذكّرة تفاهم مع المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، تمكّن الأولى من إرسال بعض الأشخاص إلى أماكن الاحتجاز الموجودة لدى الثانية والعائدة للأمم المتحدة.
لقد طلب رئيس المكتب الإعلامي والشؤون العامة في المحكمة الخاصة بلبنان البريطاني كريستبين ثورولود الذي استلم وظيفته في الأوّل من شهر تشرين الثاني 2010، قادماً من رحلة عمل طويلة في الإعلام في الشرق الأوسط إذ عمل في لبنان بين العامين 2006 و2008، وقناة أبو ظبي، من اللبنانيين توخّي الدقّة في نقل المعلومات وذلك بهدف عدم التأثير على عمل المحكمة، فهل من يستجيب في لبنان، أم أنّ أسلحة الكباش السياسي تفرض التصعيد والتحريف والتلفيق حتّى ولو كانت على حساب مصلحة لبنان وشعبه ومستقبله السياسي؟