منتديات ليب مون

فتح الفاتيكان رسميا «باب الترشيح» لانتخابات البطريرك السابع والسبعين لأنطاكيا وسائر المشرق بقبوله استقالة البطريرك الماروني نصرالله صفير. تبلغ البطريرك صفير الجواب الذي كان ينتظره.. وفي الوقت الذي كان ينتظره أيضا. «ارتحت» يقول... في عبارة تحمل وجهين: الراحة من حمل أكثر من تسعين سنة في «دار» الحياة ونحو خمسة وعشرين عاما في «دير» البطريركية. والراحة من ضغط لا ينتهي لمسؤوليته الروحية ولعاصفة السياسة اللبنانية التي اتخذ فيها ما رآه مصيبا وحكيما من قرارات وخيارات وطنية.
بيده التي يبارك فيها «جماعة المؤمنين»، سجّل صفير في تاريخ سيامته بطريركا أن في عهده نبتت، بشكل ملموس وحسي، «غرسة مارونية» في حنايا عاصمة الكثلكة في العالم، فانتصب تمثال مار مارون في آخر حنايا بازيليك مار بطرس كـ«خاتم حراس الفاتيكان» وخاتم أيام صفير البطريركية كذلك. ومذاك دقت ساعة الصفر رسميا.
تبدأ ولاية الـ«مشروع بطريرك» بمهمة أولية صعبة إذ عليه أن يحصل على ثلثي الأصوات من عدد المطارنة الـ39. «سكور» ليس سهلا إلا إذا تدخل الروح القدس فعندها يعود زمن المعجزات»، يقول أحد الآباء الذي يعيش في روما. ولحين السماح لعودة الروح يبدو دور الفاتيكان مؤثرا وإن ليس بشكل مباشر، وتقول أوساط فاتيكانية: «يوافق الفاتيكان على من يختاره الآباء المطارنة».
ومن دون أن تنفي القدرة على الإيحاء الى مطارنة الإنتشار بدعم هذا المطران أو ذاك علما أن الثقل الانتخابي يبقى لمطارنة لبنان، تلفت المصادر الفاتيكانية الانتباه الى الاحترام الذي يحظى به البطريرك صفير في دوائر الفاتيكان كـ«أحد الرجالات الكبار في الكنيسة»، ولكنها تضيف «يريد الفاتيكان أن يكون البطريرك الجديد شخصا مستقلا وعلى وفاق مع جميع الأطراف».
وهل البطريرك صفير لم يكن كذلك؟ تجيب المصادر الفاتيكانية: «قد تكون الظروف حكمت عليه ان يقع في ما لا يريد أن يقع فيه أحيانا، علما أن ولايته التي امتدت الى خمسة وعشرين عاما تعد الأنجح ولكن من يدخل السياسة عليه أن يتوقع سهام الانتقاد». وتضيف المصادر نفسها أن من بين صفات البطريرك الجديد في القائمة البابوية «أن يعمل على التجديد في الكنيسة ومأسستها وإحداث النهضة اللازمة والتوفيق بين المسيحيين أنفسهم».
وفي غضون مهلة شهر من تاريخ قبول الاستقالة (26 شباط 2011)، يجب أن يكون البطريرك الجديد قد انتخب، فيما يفترض أن يدعو كبير السن الى جلسة الانتخاب، حيث تستمر دورات الانتخاب مفتوحة طيلة خمسة عشر يوما من تاريخ الدعوة، حتى يصار لانتخاب البطريرك الجديد بأغلبية الثلثين، وبالتصويت السري.
وفي هذا الإطار تشير الأوساط الفاتيكانية الى نقطتين: الأولى، نفي أي ضغوط تعرض لها صفير لتقديم استقالته وتتلاقى بالتالي مع ما يكرره هو أمام زواره «هذه هي النهاية التي اخترتها لعهدي» وبأن بالتالي لا انتخابات في 8 آذار حكما لأن المهلة تمتد الى شهر لبت مسألة انتخاب الخلف. والنقطة الثانية، يبقى الفاتيكان على استعداد ليكون الملعب الاحتياط للانتخاب على غرار ما حصل مع طائفة السريان الكاثوليك التي تعذر انتخاب بطريرك لها بثلثي الأصوات في بيروت وعلى دورتين ما اضطر الفاتيكان الى إجراء الإستحقاق في دوائره وفوز البطريرك يونان بالتالي بالأكثرية.
ينظر الفاتيكان الى الواقع المسيحي في لبنان والمنطقة من حيث «الدور الجامع وخصوصا في ما يتعلق بمسيحيي لبنان لجهة ما تشهده بعض الدول العربية من أحداث في هذه المرحلة». وفي «الطبعة اللبنانية» يشدد على التمسك الفاتيكاني بـ«العيش المشترك ولمّ شمل اللبنانيين انطلاقا من أن دور المسيحي انفتاحي بعيدا من أي تقوقع أو انعزال». تسميات الـ14 و8 غير موجودة في قاموس الفاتيكان. وهو لا يغفل أن لبنان ليس بجزيرة فيوصي أبناءه دوما «بالإنفتاح المسيحي داخل لبنان والى كل المشرق العربي لأنه «يحرص على أن يكون المسيحي متفاهما مع شريكه في الوطن ويتحاور معه ويحترم بقية العقائد والأديان».
ولأن «الرسائل» والبرقيات وغيرها من المراسلات التي ترد الى حاضرة الفاتيكان من لبنان ودول العالم كافة تعدّ بالأطنان سواء للمديح أو للشكوى، فإن عاصمة الكثلكة لا تصنف اللبنانيين في السياسة وإنما توصي «باحترام الشرائع والقوانين اللبنانية من قبل جميع الأفرقاء ومن ضمنها مبادئ الديقمراطية والإنفتاح على الآخر وحرية المعتقد».
في محيط لبنان للفاتيكان ثوابت أكثر من المتغيرات. ففي العلاقة مع سوريا «تشجيع بابوي على الانفتاح وكل مظاهر التلاقي واللحمة المسيحية التي من شأنها التأسيس للإلفة بين الشعبين». وفي ديانة قائمة على الحق والعدالة لا يمكن للفاتيكان الا أن يكون مع القضية الفلسطينية. وهو دعا مرارا الى تطبيق مبدأ الدولتين على أن تكون القدس عاصمة مفتوحة للجميع. صحيح أنهم ينظرون الى الفلسطينيين على أنهم «ظُلموا» لكنهم يتحصنون بمنطق «أننا نريد حلا»... ولا أحد ينسى التصريح الشهير للبابا بنديكتوس السادس عشر الرافض لجدار الفصل العنصري.
أما في مقاربته الى ما يحصل على المسرح العربي من تونس الى مصر وليبيا واليمن والجزائر وغيرها، فالفاتيكان لم يتفاجأ. «الحكام الذين لا ينظرون الى شعوبهم هكذا ستكون نهايتهم ككل ديكتاتوريات العالم ومن الطبيعي أن الشعب الثائر سينقل العدوى الى جاره». ومن هنا التركيز البابوي على لبنان «الذي هو حاليا المركز الأساس لمسيحيي الشرق وهذا ما يوجب عليه أن يكون الدليل والقائد في الوقت عينه فيوفر كل الظروف المساعدة لدعم المسيحيين فيه ليس طائفيا وإنما لبقائهم في وطنهم والعمل من خلال المؤسسات والقانون ونشر مبادئ الانفتاح والحرية».
يعتبر الفاتيكان أنه يقوم بما عليه لمساعدة المسيحيين على البقاء في أرضهم. يوصي «الراعي» بمبادئ المسيحية وفي مقدمها المحبة والإنفتاح ويترك له قيادة «القطيع الصغير» الى بر الاستقرار بعيدا من مشاعر «الذمية». ومن هنا يأتي الحكم على خيارات القادة المسيحيين ومدى توافقها مع التوجهات الفاتيكانية. صحيح أن الفاتيكان لا يحبذ السلاح لكنه، وفق أوساط فاتيكانية واسعة الاطلاع، «يؤيد حق الدفاع عن النفس كحق مشروع وفق قواعد السماء والأرض».
في دوائر الفاتيكان تزدحم الملفات. الشكاوى لا تقتصر على رجال الدين في ما بينهم وإنما تتخطاهم الى شكاوى ومراسلات موقعة من سفراء ومسؤولين وأناس عاديين. وهكذا يكون لكل استحقاق ملفاته. ويؤكد متابعون أن الفاتيكان لا يهمل حتى الفاصلة ويتابع كل شاردة وواردة.