منتديات ليب مون

«فايسبوك» في ميدان التحرير.. مسخّر لخدمة الثورة


لم تكن ساعات الصباح الأولى، في نهار الخامس والعشرين من كانون الثاني الماضي، تشي بأن ثمة شيئاً استثنائياً سوف يحدث. كانت صفحات المشتركين على موقع «فايسبوك» لم تتخط بعد عتبة الرتابة اليومية، لجهة الأخبار المعتادة أو بعض النكات والتعليقات التي تطال مواضيع متنوعة.
لكن، مهلاً. فثمة ما يبدل المشهد اليومي عند ساعات الظهيرة. إذ تقفز مجريات تظاهرة «يوم الغضب» في مصر لتصبح هي الحدث الأبرز. بوتيرة متسارعة، تتصدّر أخبار «بروفايل» (الصفحة الشخصية) وصفحات الموقع العامة.
»يناير - الآلاف يتظاهرون ضد مبارك في جميع أنحاء مصر».. وتقفز أغاني الشيخ إمام من صندوق الذاكرة الذي ما زال مضيئاً بالنسبة إلى كثيرين. تتزاحم الأسئلة في أجزاء مختلفة من العقل الذي لم يتجرأ بعد على تصديق المخيلة. ماذا يحدث في مصر؟ لا يتعدى الأمر إذاًً تظاهرة اعتدنا بعض فصولها الخجولة؟ لا تطول الحيرة، إذ تبـــدأ صور الحــشود المجتمعة في ميدان التحرير بالظهور بكثرة على صفحات الأصدقاء.
يتخذ الحدث بعداً أكثر جدية، وبالطبع، تفيض الحماسة. تكاد تتحد صفحات المشتركين على شعار واحد: تحيا مصر. يذكّرون بمصير بن علي، كل على طريقته. يبشّر سامر أصدقاءه: «ديكتاتور آخر سيخلع قريباً»، فيما يفضل حسن أن ينشر صورة تجمع ما بين مبارك والملك السعودي، كتب تحتها: «آخر أخبار انتقالات اللاعبين: المصري حسني مبارك يستعد لتوقيع عقد مع نادي اتحاد جدة السعودي والالتحاق بزين العابدين بن علي»، فيما اختار أحمد أن يبشّر الشعب المصري بأن الثورة بدأت بتحقيق أهدافها وهي لا تزال تخطو خطوتها الأولى: «أحمد نجم قال: مش ح موت قبل ما شوفها لابسة الطرحة. مصر ح تنضف، ح تغسل نفسها بيكو يا ولاد».
»مبارك على التلفاز. مبارك يتكلم الآن».
يأخذ الشباب على الموقع استراحة المحارب، بعدما أعلنوا على صفحاتهم جميعاً ساعة الصفر، أي الخطاب الأول لمبارك. دقائق قليلة وتعود الحماسة من جديد، ولكن، هذه المرة، يجتاحها الغضب: «ماذا يقول هذا الأحمق؟»، و»ألم يفهم أن الشعب لا يريده؟». تتكاثر الأسئلة والإدانات. يفتح الشباب حواراً مع بعضهم البعض، ويقيّمون الخطاب. لم يقو البعض على السيطرة علـــى غضبه: «جبان. حقـــير»، تقـــول نور، لترد عليها صديقتها نور «ما بدو يفهم»، فيما حاول البعض الآخر تهدئة الرفاق لأن «المعركة طويلة. فهذا مبارك يا شباب». تجمع بقية أصدقائه على أمنية واحدة: اقتلاع مبارك من كرسيه، وضربه!
تفيض التعليقات من شاشة الكمبيوتر. يشعر متابع الدعوات المتلهفة للمتظاهرين بالنجاح، وبضرورة الصمود والاستمرار بالتحرك، وتحذيرهم من مغبة الشعور بالخيبة ولو للحظة واحدة، بأنك في قلب الحدث، هناك، في ميدان التحرير: «ولك تحيا مصر!». يتوحد المتظاهرون مع شباب «الفايسبوك»، يختصرون الزمان والمكان، حتى يخيّل للمرء أنهم في ساحة واحـــدة، ويهتفـــون مع بعــضهم البعض: «الشعب يريد إسقاط النظام».
لأيام ما بعد الخطاب، نكهة خاصة.
يشحن تدفق الحشود ساعة بعد ساعة، وخروج أعداد أخرى في مناطق ومحافظات أخرى في مصر، همّة متابعي «الفايسبوك». هذه المرة، تحضر بقوة التحاليل والمقالات الأجنبية عن الخيارات المتاحة أمام المعارضة والنظام. تكاد تصبح الصفحات منبراً إعلامياً ينقل الأحداث ساعة بساعة، وثانية بثانية. هنا مقال يتطرق إلى تعاطي الإدارة الأميركية مع الحدث، وهناك، على صفحات أخرى، تحاليل عن موقف الجيش المصري والاحتمالات حول كيفية إدارته للأزمة. يستبشر البعض خيراً، فيما بقي البعض الآخر حذراً من الموقف الأميركي الذي يجد فيه محاولة للالتفاف على الثوار.
وللمجموعات الداعمة، أو ما يسمى بـ»الغروبات» الداعمة للثورة في مصر، حصتها، مثل صفحة «كلنا خالد سعيد»، الشاب المصري الذي توفي متأثرا بجروحه نتيجة التعذيب الذي تعرض له على يد المخبرين، وصفحة «حركة شباب 6 أبريل» التي كانت الأولى في توجيه الدعوة للمشاركة في «يوم الغضب». الإقبال على هذه المجموعات، تدغدغه التحيات إلى مصر وناسها، «أجدع ناس»، مصحوبة بأبيات لأشعار وطنية وأجزاء من أغاني وطنية مثل: «مصر التي في خاطري وفي فمي»، و»صباح الخير على الورد اللي بيفتح في جناين مصر»، و»شيّد قصورك»، و»قوم يا مصري»، و»خلي السلاح صاحي»،... فنشيد سيد درويش الوطني المصري.
فجأة، تتحول صفحات الناشطين على الموقع إلى خلية إخبارية، حيث تبرز إلى الواجهة الأنباء عن التعرض للمتــــظاهرين بالرصاص الحي والضرب والقتل الجماعي. تعلو صيحة الغضب من جديد، ويعـــد من خلالها الشباب بالثأر للشهداء ومحاكمة القتلة، فيما تعود لتظهر صـــور الرئيس الراحل جــمال عبد الناصر. لحـــظات من الحنين والاشتـــياق والتوعد بأن زمن ناصر حتــماً سيعود، لجهة «إرفع رأسك يا أخي»، كانت كافية ببث الأمل من جديد والعزم لإكمال الثورة ودعم الثوار.
وحان موعد الخطاب الثاني.
يتحمس الجميع. يبشرون بأن النصر بات قاب قوسين أو أدنى. «اليوم، سيسقط حسني مبارك»، يجمعون. قبل الخطاب بقليل، تخيم حلقات النقاش بين المشتركين في الموقع، أبرزها حول موقف الجيش حتى الآن، وحول الدور الذي يمكن أن يؤديه في المرحلة المقبلة. لا يخفي البعض تذمره، وتوجسه من الموقف الملتبس، بنظرهم، للجيش. رغم ذلك، يجمع الجميع على وجوب العمل على حماية صمود المتظاهرين، وعدم السماح لأي عمل من هنا وهناك يقضي على الإنجازات. يتناقلون أخبار حماية المتحف والشوارع، كأنهم يتناقلون الدهشة بأكثر صورها إيجابيةً. يحتفلون بكل صورة لمصري يرفع شعارا يثير الضــــحك، أو الفخـــر. يصبح لكل متظاهر وجه، ينتقل عـــبر «فايـــسبوك»، تماماً كما أضــحى لكل شهيد وجه، يُرفع له الاحترام، ويسمّى بطلاً، على «فايسبوك».
يصمت الجميع، معلنين بذلك بدء الخطاب الثاني، والأخير «كما نأمل».
ينصت «الفايسبوك» جيداً. يحبس أنفاسه، باستثناء بعض التعليقات المواكبة للخطاب، والمتهجمة على مبارك.
آخ، لم يستقل!
»طبعاً، فنيرون حرق روما». وسؤال: «بدك تعمل حمام دم يا مبارك الكلب؟».
هكذا إذاً، لم يستقل فرعون.
لكن مهلاً، لا وقت للخيبــــة على صفحات الموقــــع. إثر الخطاب الثاني، التهب غضب «المتظاهرين» من رواد الموقع، تسكنهم الحــــماسة من جديد، بعدما اطمأنوا إلـــى أن أصدقاءهم في الميدان لم يستســـلموا.
يصل دويّ صرخة الثوار في مصر إلى عيون شباب «فايسبوك» المشدودة إلى هناك، إلى نقطة البداية، والأمل: «الشعب يريد إسقاط الرئيس»، آذنين بـ»يوم الرحيل»، هذا النهار التاريخي الذي جعل تعليقات الموقع تتراقص فرحاً، فبات الجميع في صفحاتهم «مصريون»، بالدم والروح والقضية، فرفرفت الأعلام المصرية هنا أيضاً، وردد الجميع: «الشعب يريد إسقاط الرئيس»، و»مش عايزينو».
»مصري»، أعلن أحدهم. «عايزة روح ميدان التحرير»، قالت لبنانية أخرى. «ام الدنيا»، أجمع الفايسبوكيون.
إذاً، مصر هي الحدث. إذ لا تزال فضائح النظام وجرائمه مستمرة، وتجاوزات الرئيس المخلوع بنظر رواد الموقع تستحضر، وأرقام ثرواته غير المشروعة باتت محور الأحاديث والاهتمامات.
عندما عاد الإنترنت إلى مصر، خرج شبابها إلينا، يمدّون اللبنانيين وسواهم من الفايسبوكيين، بمعلومات إضافية عن فساد نظام مبارك، بالأرقام، كما بصور من قلب التظاهرات في مصر المحروسة، شهيد هنا، وطفل يقود تظاهرة هناك. وجه قائد المقاومة الشعبية في السويس هنا، وسيارات تدهس المارة هناك. صور الفايسبوك، نقلها التلفزيون. وصور اخرى لم تنقل بعد، ونشأ موقع يرصد نكات المصريين، وخفة روحهم في التظاهر، واشتهرت «إرحل بقى إيدي وجعتني!».
الثورة ليست في شوارع مصر وحدها، و»شباب 6 أبريل» لم يعلموا أن دعوتهم ستغدو القوت اليومي والأمل لجيل لم يشهد في حياته سوى الحروب العبثية والخيبات المتتالية.
رواد «الفايسبوك» غاضبون. يشعرون مع أبناء مصر، يحاولون إيصال صرخاتهم إلى العالم بدعوات التضامن وفضح جرائم النظـــام.. بانتظار أسبـــوع الصمود. وحتى يحين موعد ساعة الحسم، يصرخ الجميع: تحيا مصر

لك مني جزيل الشكر والتقدير

الله يقويهن