منتديات ليب مون

يؤدون الصلاة على الطريق أمام السفارة أمس


حسني مبارك» كان في بئر حسن أمس


وقف الشاب المصري رافعاً مكبر الصوت بيده وبدأ بالصراخ. هشام الذي يعمل في البناء كان متحمساً بشدة. لم يكف عن تعداد «انجازات» الرئيس حسني مبارك بحق الشعب المصري: «ثلاثون سنة من الجوع. ثلاثون سنة من التشرد. ثلاثون سنة من الحكم ومبارك يحرمكم من كل شيء. حتى الغاز المصري قدّمه لإسرائيل..».
بدا هشام الذي يعمل مورقاً في ورش بيروت غاضباً، وحانقاً، وممتعضاً. كلما أطلق كلمة من عباراته التي كتبها على أوراق ممزقة حملها بيده، ظهرت عروقه نافرة في عنقه.
ومع تزايد عدد المعتصمين أمام السفارة المصرية في بئر حسن أمس تضامناً مع يوم «جمعة الرحيل» كانت حماسة هشام تزيد. صار يخاطب الرئيس المصري مباشرة ويسأله: «أنزلت البلطجية؟ أنزلت الشرطة؟ مش كل الشرطة بلطجية.. مش كل مصر زيك يا ظالم.. منّك لله يا نمرود العصر الحالي..».
كان عناصر قوى الأمن الداخلي يتفرجون على هشام الذي طالب بنزول السفير المصري إلى الشارع. من بين هؤلاء أكثر من ضابط بنجمة مكللة. وقفوا بالقرب من آليات الإطفاء يحملون دروعهم والهراوات، ويرتدون الخوذات الواقية، مدققين بوجوه المعتصمين.
المعتصمون من أنصار «الجماعة الإسلامية» كانوا أول من وصل عصرا. عندما بات عددهم كافياً لعرقلة السير المار، قامت القوى الأمنية بقطع الطريق من جهة منطقة الكولا، فباتت الحركة على الطريق العام أكثر راحة للمعتصمين. شبان الجماعة ظهروا منظمين جداً. ضربت مجموعة منهم طوقاً بشرياً احترازياً حول المعتصمين كنوع من تحديد المساحة التي يقفون فيها على الرغم من أنهم كانوا وحدهم ساعتها.
اختارت «الجماعة الإسلامية» الصور التي رفعتها بعناية. بحثت عن تلك التي تجمع مبارك مع المسؤولين الإسرائيليين وتبدو ضحكته فيها صارخة. ذكّرت لافتات الجماعة بأن «مبارك يحاصر أهل غزة ويقتل أهل بلده». واحدة من بين اللافتات رأت أن «السعودية خسارة فيك، تل أبيب بتناديك»، إشارة إلى المملكة التي استضافت الرئيس التونسي المخلوع من قبل شعبه.
بين قياديين من الجماعة وقف شاب يساري. مشهد الشاب كان خادعاً. فبلحيته المرتبة ظهر كأحد كوادر الجماعة أو كأحد القياديين فيها. الشاب أصرّ وحيدا، بحسب ما يظهر، على تلبية دعوة الجماعة لـ«الآخرين» بالمشاركة رغبة منه بتظهير الصورة التالية: «كل القوى السياسية رغم الاختلافات الأيديولوجية بينها تتضامن مع شعب مصر وترفض الديكتاتورية». تحت المطر، وقفت مجموعة شبان في وسط الطريق لتأدية الصلاة.
ووسط الأمل باللقاء بعد ساعات «بعدما تكون مصر قد تحررت»، تفرقت حشود «الجماعة الإسلامية» التي كان من بينها وفد نسائي وبدأت مجموعات سياسية أخرى بالوصول تباعاً. حضر الشيوعيون أولاً، ثم مناصرون لـ«المرابطون» بأعلام كثيرة. كذلك، جاء قوميون سوريون، ومؤيدون لـ«التنظيم الشعبي الناصري» و«حركة الشعب». يختلط مناصرو كل تلك المجموعات ليتحولوا الى كتلة واحدة متعددة الألوان.
تحت ثلاث مظلات، وقفت ثلاث سيدات في منتصف الخمسينات من العمر تحت المطر الغزير المنهمر. بدون سعيدات. الثلاث جئن ليقلن كلمة واحدة للرئيس المصري حملنها على أوراق بيضاء «كفى». أنشدن مع عبد الحليم حافظ «وطني الأكبر» ومع مرسيل خليفة «إني اخترتك يا وطني».
بعد قليل، دعون آخرين للاحتماء من المطر تحت مظلاتهن. عندما اقترب المعتصمون من السلك الشائك الذي يفصلهم عن السفارة زاد عناصر القوى الأمنية من انتباههم. وعندما خرج أحدهم بشعار «يا مبارك كخ كخ» انفجرت مجموعة من المعتصمات بالضحك قبل أن يرددن الكلمة الأخيرة استهزاء مرات عدة: «كخ.. كخ.. كخ».
جلد مواطن في الشارع!

خلع الشاب النحيل بالشعر الأشعت ملابسه وحذاءه. ثم بدأ يربط يديه ورجليه بسلسلة حديدية سميكة مع قفل كبير. الشاب ممثل ويريد أن يؤدي مشهداً مسرحياً حياً في وسط الشارع. يسير تثقله السلاسل، ثم ينحني على ركبتيه ويضرب الأرض براحتي يديه قبل أن يقف ملتصقا بلوح خشبي مخصص لتعذيب المساجين. يقول: «ليا مين غيرك يا بلدي ليا مين؟ ياللي علمتيني معنى الحنين..»
كان الممثل الشاب قاسم اسطمبولي، الذي درس الإخراج والتمثيل في الجامعة اللبنانية، يستعيد المشهد من فيلم «إحنا بتوع الأوتوبيس» الذي تدور أحداثه حول التعذيب الذي كان يمارس في السجون في مصر خلال حقبة الستينات ويؤدي دور البطولة فيه الممثلان عادل إمام وعبد المنعم مدبولي.
يقترب شاب ضخم البنية من قاسم ويبدأ بجلده بواسطة حزام من الجلد على ظهره تحت أنظار بعض مسؤولي الأحزاب المشاركة المدهوشة، وهم الذين كانوا قد تجمعوا لإلقاء كلمات داعمة. يجلده جلداً حقيقياً. يصرخ قاسم من الألم: «مصر.. مبارك.. كفاية.. مش عايزينك.. كفاية يا ريّس..».
تؤدي قوة الرياح الى انفلات المظلة التي كان يحملها الشاب الطويل، فتفتقت في رأسه فكرة «عبقرية». ترك المظلة مفتوحة على قضبانها الحديدية العارية ثم أحضر ورقة وقلما وكتب على الورقة الجملة التالية: «المظلة الأميركية الصهيونية». علّق الورقة في رأس المظلة ورفعها فوق رأسه. أراد القول أن الدول العربية التي تختبئ تحت هذا النوع من المظلات سيصل إليها البلل حتماً، من بين أشياء أخرى.
وصلت اللافتة القماشية التي تحمل صورة مبارك بثلاث شخصيات متشابهة وعلقت على الشريط الشائك. تصوّر اللافتة مبارك ببزة عسكرية يحمل بندقية بيده وقد مهر جبينه بنجمة داوود ووضع خوذة أميركية فوق رأسه. وعلى وقع صيحات «الشعب يريد إسقاط الرئيس» يقترب شاب بقبعة حمراء من اللافتة، يرمي عليها بعضا من الوقود، ويشعلها.
بعد ذلك رمى عدد من الشبان أخشاب اللافتات التي كانوا يحملونها على القوى الأمنية. كذلك شدّوا بالأشرطة الشائكة من دون أن يتمكنوا من إزاحتها. تدخّل هشام، الشاب المصري المتحمّس، لينهيهم عن الأمر. ما لبثوا أن تفرقوا في مجموعات.