منتديات ليب مون

هل بدأ موسم هجرة القضاة من لبنان؟
من يجالس المسؤولين في السلطة الثالثة، يجد إرباكاً لديهم وتململاً غير مسبوق، من طفرة القضاة الذين يقدّمون استقالاتهم، أو يطلبون وضعهم في الاستيداع لفترة من الزمن، ثمّ يعودون ويجدّدون هذه الرغبة الجامحة، والسبب بسيط ويتمثّل في ارتفاع العروض المادية التي تنهال عليهم من الخارج، وتحديداً من الدول الخليجية العربية، مقارنة بالرواتب الضئيلة التي يتقاضونها من الدولة اللبنانية.
فمن يدخل إلى الجسم القضائي في لبنان، يتلقّى راتباً شهرياً مقداره مليونان ومئة ألف ليرة، أيّ ما قيمته 1400 دولار أميركي، ومن يمض اثنين وأربعين عاماً في الخدمة الفعلية ويغرق في بحر الملفّات حتّى يصاب بشحّ في النظر، أو بضعف في الجسد، يأخذ خمسة ملايين وأربعمئة وثمانية عشر ألف ليرة، أيّ ما قيمته 3612 دولاراً أميركياً على أساس سعر صرف الدولار 1500 ليرة، ويكون قد بلغ مرحلة التقاعد وناهز عتبة الشيخوخة ولم يعد قادراً على عطاء آخر.
وتتدفّق الطلبات على عدد وافر من القضاة لكي يشغلوا منصب رئيس محكمة، أو مستشار في الإمارات وقطر، وبرواتب مغرية يصل بعضها إلى ثمانية عشر ألف دولار أميركي، أيّ أضعافاً مضاعفة لما يحصلونه من دولتهم اللبنانية.
وبحساب بسيط، يكون مجموع الراتب السنوي للقاضي اللبناني بمجرّد دخوله إلى السلك القضائي خمسة وعشرين مليوناً ومئتي ألف ليرة لبنانية، أيّ ستّة عشر ألف وثمانمئة دولار أميركي، وبلغة مبسّطة، أقلّ بألف ومئتي دولار ممّا يتقاضاه في الشهر الواحد في دولة خليجية حيث يصل راتبه السنوي إلى مئتين وستّة عشر ألف دولار أميركي.
هذا الرقم الخيالي يفوق ما يتقاضاه القاضي اللبناني من دولته في 88 شهراً ونيّف، أو بالأحرى، في سبع سنين وثلاثة أشهر ونيّف، على أساس احتساب درجته 11، أيّ نصف ما يمكن أن تصل إليه درجته طوال عمره في القضاء 22، وعلى أساس احتساب راتبه الشهري ثلاثة ملايين وستمئة وثمانين ألف ليرة ومن دون حسم ضريبة الدخل والتقاعد، فكيف إذا كان راتبه أقلّ ومن أصحاب الدرجات الأقلّ؟ فالرقم يصبح أعلى وبشكل كبير، ولا بدّ من الانجرار وراء المغريات المادية في ظلّ الارتفاع الفاحش في أسعار مستلزمات الحياة والعيش الكريم، وانخفاض تقديمات الدولة في شتى المجالات.
وإذا كان من القضاة المخضرمين والمعتّقين وذوي الخبرة والمراس والاختصاص المهني الرفيع، ارتفع راتبه إلى أكثر من الراتب المذكور.
قد يكون مفهوما مواصلة عدد من القضاة العمل في محاكم الدول العربية بعد خروجهم من القضاء اللبناني بفعل التقاعد لبلوغهم سنّ الثامنة والستّين، وذلك إيماناً منهم بقدرتهم على العطاء وعدم اعترافهم بمهادنة الكِبَر والخمول، لأنّه يؤدّي إلى الموت السريع، وهذا مشروع تحدّ ومنافسة، نجح عدد من الكبار في تخطّيه والتفوّق عليه، وها هي أسماؤهم تلمع في سماء هذه الدول وتضجّ بها محاكمها التي ارتقى مستواها بحكم وجودهم في رئاستها، أو في عداد أعضائها.
ويتردد في أروقة العدلية أنّ أحد قضاة الجزاء الكبار ممن كان رئيساً لإحدى محاكم التمييز وعضواً في المجلس العدلي ونظر في ملفّات دسمة سياسياً وقانونياً في مرحلة تسعيــنيات القرن العــشرين، قبض أربعين ألف دولار أميركي لقاء مناوبته شهراً واحداً في العطلة الصيفية في إحدى محــاكم دبي، أيّ أنّه قبض ضعفي راتبه الشهري هنــاك، ولو كان في لبنان لاحتاج إلى نحو 14 شهراً لتقاضــيه على أساس احتساب راتبه عند تقــاعده قبل ثماني ســنوات، أربــعة ملايين وثلاثمئة ألف ليرة، وبمعنى آخر هو قبض راتباً واحداً في شهر واحد، يوازي راتب 14 شهراً في لبنان، فكيف لا يفكّر هو وسواه بالهجرة من العدلية إلى المحاكم الخليجية؟.
هذا عدا التفكير في مكان العمل حيث الراحة متوافرة، فلا نشّ، ولا رطوبة، كما في مختلف قصور العدل في لبنان، ولا مصاعد معطّلة، أو تعمل يوماً وتتوقّف أسبوعاً، ولا محاكم مهترئة وسقوف آيلة إلى السقوط، ولا مغلّفات مهملة ومتسخة، ولا انقطاع للأوراق التي تكتب عليها القرارات والأحكام، بل كلّ شيء حديث ومتطوّر ومحسوب على الحاسوب.
ويكثر القضاة في مجالسهم الخاصة من الحديث عن «الوضع الذي لم يعد يطاق، ويطالبون بتحرّك ما لإيجاد الصيغة المناسبة لمضاعفة الرواتب وإلاّ فليس أمامهم سوى الهجرة مفضّلين هذه الخطوة برغم مرارتها على قبول الرشى ولو كانت على هيئة هدّية، لأنّ التلاعب بالضمير يعني انزياح عن مبدأ الصواب وإحقاق الحقّ الذي هو العمود الفقري لقيام العدل في أيّ بلد.
ويكشف مصدر قضائي رفيع لـ«السفير» أنّ مجلس القضاء الأعلى تلقّى عدداً وافراً من كتب الاستقالة والاستيداع حيث يرغب أصحابها ليس في تجربة حظّهم في محاكم الدول العربية، بل في تحسين وضعهم المعيشي وبما يليق بهم وبوظيفتهم ومكانتهم العلمية والاجتماعية، فالقاضي موظّف فئة أولى في لبنان، وثمّة موظّفون من ذات الفئة يتقاضون رواتب أعلى بكثير، فلماذا هذا التمييز؟.
وأعدّ مشروع مرسوم لزيادة رواتب القضاة وتحسينها وافق عليه الرئيسان ميشال سليمان ونبيه بري، وهو موجود في السرايا الحكومية ولا يحتاج إلاّ إلى وضعه على جدول أعمال مجلس الوزراء في أقرب جلسة له، وذلك لتدارك مصيبة الهجرة القضائية في ظلّ الحاجة الماسة إلى وجود القضاة في وطنهم لخدمته، وفي ظلّ تكدّس ملفّات المواطنين في مختلف دوائر قصور العدل، حيث هناك نيّة في استيعاب المزيد من الطامحين في دخول السلك القضائي وعدم التفريط بهم وبالموجودين، خصوصاً أنّ وطنهم أولى بهم، ولكنْ لتثبيت هذا الولاء يجب إعادة النظر في سلسلة الرتب والرواتب وبأقصى سرعة.
ولا يزال كثيرون من أهل العدلية، يتذكّرون ما فعله وزير العدل الأسبق الدكتور بهيج طبّارة عند تولّيه حقيبة وزارة العدل، إذ قام بتحصين القضاة عبر انتزاعه، بتأييد من الرئيس رفيق الحريري، زيادة رواتبهم وتأمين الراحة النفسية والمعيشية لهم، فهل يتكرّر الأمر في عهد الوزير إبراهيم نجّار الذي يضعه في سلّم أولوياته، ويصادق عليه مجلس الوزراء أم أنّ موسم هجرة القضاة قد بدأ ولن يتوقف؟