منتديات ليب مون

صور جورج معلّقة على جدران الذاكرة


مربك هذا الصمت الذي يلف كنيسة مار جريس في الشياح. الكنيسة التي فتحت أبوابها لتلقّي التعازي بالشاب جورج أبو ماضي حزينة، ساكتة، حائرة. ورغم أن ناسها، من معزين وأحباء كثر، يملأون الصالون بوجوههم المكسورة، يكاد المتأمل فيها يظن أنها فارغة وسط كل هذا السكوت المطبق.
الصمت هو نوع آخر من الكلام. نوع آخر من التعبير. لم يعد هناك ما يقال. الشهداء، وجورج واحد منهم، صاروا كثراً. صورهم باتت تملأ الجدران والأعمدة في كل الأزقة وفي المناطق كلها. شهداء غدر، يسقطون واحداً تلو الآخر، ومن ثم نقول لهم: «لن ننساكم أبداً».
يسقطون لأسباب غريبة، وبطرق ترسم على وجه الموت ضحكة صفراء خبيثة، مثله، حين يأتينا على غفلة. بحد سكين. برصاصة طائشة أو مقصودة. بسيارة تصدم عابر طريق ومن ثم يهرب سائقها. وفي اليوم التالي، يصير الشهداء ورقة نعي خرساء على عمود كهرباء صدئ، وخبراً في نشرات الأخبار، أو صورة في الصحيفة، ليوم، أو يومين، أو ثلاثة على الأكثر. ومن ثم ننسى وينسى الناس، أو نحاول النسيان.
لكن، شهداء اللحظة الخطأ والمكان الخطأ هؤلاء آدميون. لهم أهل ينتظرونهم كي يولدوا، ينتظرون أن يحبوهم، أن يربّوهم بضيّ عيونهم وبما ملكت أياديهم. ينتظرون يوم تخرجهم من المدرسة، ومن بعدها الجامعة، بفارغ الصبر، وينتظرون يوم عرسهم. وعندما يسقطون.. يبكون عليهم، ويحزنون. ولا ينسون.
كان على التعازي بجورج أن تكون في مكان آخر. في كنيسة مار مخايل. لكن الجو لم يسمح، حسبما يقول هذا الشاب المسيّس و«المتحمّس» الذي يجلس بقربي في الصالون. الجو في الكنيسة التي وقفت شاهدة على حرب خرقاء تدور بين جانبين، سمح يومها بتوقيع ورقة سياسية بين مجموعتين كبيرتين. لكنه لا يحتمل اليوم تقبل التعازي بشاب واحد. تخيلوا. ومن ثم يقول لي الشاب نفسه: اهتموا لنا بصورة النواب الحاضرين! معقول؟!
جورج كان شاباً ابن ثلاثين، موظفا في مصرف يجهّز نفسه للزواج خلال بضعة أشهر. كان يجهّز وخطيبته كارين منزلهما الزوجي. اختار ابن عمه، ماريو، الشاب العشريني، إشبيناً له، فهو وحيد أهله على صبية واحدة، جوسلين، يتركها خلفه مثل كثر آخرين أحبهم وأحبوه. كانت الحياة واسعة أمامه، كمثل صورة البحر الأزرق الذي يشكّل خلفية الصورة التي علقوها في نعيه، وكتبوا أسفلها: «يا شيخ الشباب».
لعل أحلامه كانت عادية، كمثل أي شاب آخر. ولعلها كانت كبيرة. بأي حال، لم يعد ذلك هاماً. فأحلامه، التي تظل ملكه وحده، قد حملها معه حين قضى غدراً.
ابن عم جورج، ماريو، يقول إن الكلمات الأخيرة التي قالها بعد تلقيه الطعنة القاتلة كانت: «أنا ما خصني»، ثم وقع أرضاً مضرجاً بدمائه قبل أن يغمض عينيه إلى الأبد. يتوقف ماريو عن الكلام. يذهب ليحضر صورة أخرى للشهيد، بطلب من جوسلين.
يقتل بعضنا بعضا كل يوم بسبب طائفيتنا. بسبب فقرنا. بسبب ضيق حال يدنا. بسبب اختلافاتنا وخوف بعضنا من بعض. بسبب صور مشوشة في عيوننا وحــقد ينمو في قلوبنا. بسبب أحلامنا التي تضيع أمام ناظرينا. يقتل بعضنا بعضا لأننا فقدنا الأمل.
وعندما يشيعوننا بنعش أبيض مزين بالورود يرقصونه على الأكتاف، يسخر الموت حتى ثمالته منا، ويبدأ بالبحث عن الشهيد التالي بلا ملل.
الذي طعن جورج، في ليل أسود، ليس شخصاً واحداً. الذين طعنوه كثر.
لقد تعبنا من كثرة النعي. لقد تخدرنا من كثرة الموت.
كلنا ما خصنا يا جورج. كلنا ما خصنا